سورة العنكبوت - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (العنكبوت)


        


قلت: الحسبان: قوة أحد النقيضين على الآخر، كالظن، بخلاف الشك، فهو الوقوف بينهما. والعلم: هو القطع بأحدهما، ولا يصح تعلقهما بمعاني المفردات، ولكن بمضامين الجمل، فلا أقول: حَسِبْتُ زيداً وظننت الفرس بل حسبت زيداً قائماً، والفرس جواداً. والكلام الدال على المضمون، الذي يقتضيه الحسبان هنا أن يتركوا مع قوله: {وهم لا يفتنون} أي: أحسبو تركهم غير مفتونين لأن يقولوا: آمنا.
يقول الحق جل جلاله: {الم}: الألف: لوحدة أسرار الجبروت، واللام: لفيضان أنوار الملكوت، والميم: لاتصال المادة بعالم الملك. فكأنه تعالى أقسم بوحدة جبروته وأنوار ملكوته واتصال مادته بملكه وخليقته، أنه لا يدع دعوة مدع إلا ويختبره؛ ليظهر صدقه أو كذبه، وهذا معنى قوله: {أحَسِبَ الناسُ} أي: أظن الناس {أن يُتركوا} غير- مفتونين ومختَبَرِين، {أن يقولوا آمنَّا وهم لا يُفتنون}؛ أظنوا أن يَدَّعوا الإيمان ولا يُختبرون عليه؛ ليظهر الصادق من الكاذب، بل يمتحنهم الله بمشاق التكليف؛ من مفارقة الأوطان، ومجاهدة الأعداء، ورفض الشهوات، ووظائف الطاعات، وبالفقر، والقحط، وأنواع المصائب في الأموال والأنفس، وإذاية الخلق؛ ليتميز المخلص من المنافق، والثابت في الدين من المضطرب فيه، ولينالوا بالصبر على ذلك عوالي الدرجات، فإن مجرد الإيمان، وإن كان على خلوص قلب، لا يقتضي غير الخلاص من الخلود في العذاب، وما ينال العبدَ من المكاره يسمو به إلى أعلى الدرجات وأعظم المقامات، مع ما في ذلك من تصفية النفس وتهذيبها، لتتهيأ لإشراق أنوار مقام الإحسان.
رُوي أنها نزلت في ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد جزعوا من أذى المشركين، وضاقت صدورهم من ذلك، وربما استنكر بعضهم أن يُمكِّن اللهُ الكفرةَ من المؤمنين. فزلت مُسلِّية ومعِلْمة أن هذه هي سيرة الله في عباده؛ اختباراً لهم.
قال تعالى: {ولقد فتنَّا الذين مِنْ قبلهم} بأنواع المحن؛ فمنهم من كان يُوضع المناشر على رأسه، فَيُفْرَقُ فرقتين، وما يصرفه ذلك عن دينه، ومنهم من كان يمشط بأمشاط الحديد، ومنهم من كان يُطرح في النار، وما يصده ذلك عن دينه. {فليعْلَمَنَّ اللهُ} بذلك الامتحان {الذين صَدَقُوا} في الإيمان بالثبات، {وليعلمنَّ الكاذبين} بالرجوع عنه. ومعنى علمه تعالى به، أي: علم ظهور وتمييز. والمعنى: ولَيُمَيِّزَنَّ الصادق منهم من الكاذب، في الدنيا والآخرة. قال ابن عطاء: يَتَبَيَّن صدق العبد من كذبه في أوقات الرخاء والبلاء، فمن شكر في أيام الرخاء، وصبر في أيام البلاء، فهو من الصادقين، ومن بطر في أيام الدنيا، وجزع في أيام البلاء، فهو من الكاذبين. اهـ.
الإشارة: سُنَّة الله تعالى في أوليائه: أن يمتحنهم في البدايات، فإذا تمكنوا من معرفة الله، وكمل تهذيبهم، أعزهم ونصرهم، وأظهرهم لعباده. ومنهم من يتركهم تحت أستار الخمول، حتى يلقوه على ذلك؛ وهم عرائس الملكوت، ضنَّ بهم أن يظهرهم لخلقه.
والامتحان يكون على قدر المقام، وفي الحديث: «أشدُّ الناسِ بلاءً: الأنبياء، ثم الأمْثَلُ فالأمثلُ، يُبْتَلَى الرجلُ على قدر ديِنهِ، فإن كان في دينه صُلْباً اشتد بلاؤُهُ وإن كان في دينِه رقَّةٌ ابتلى على قَدرِ دينِه فما يبرحُ البلاءُ بالعبدِ حتى يَتْرُكَهُ يَمْشِي على الأرْضِ وما عليه مِنْ خَطِيئة».
وقال صلى الله عليه وسلم: «أشدُّ الناسِِ بلاءً في الدنيا: نبي أو صفي» وقال صلى الله عليه وسلم: «أشدُّ الناس بلاءً: الأنبياءُ، ثم الصالحون. لقد كان أحدهم يُبْتَلى بالفقر، حتى ما يَجَدَ إلا العباءَةَ يُحَوِّيهَا فيلبسها، ويُبْتَلى بالقَمَلِ حتى يَقْتُلَهُ ولأَحَدُهُمْ كان أشدَّ فرحاً بالبلاء من أحَدِكُم بالعطاء» من الجامع. والله تعالى أعلم.


يقول الحق جل جلاله: {أَمْ حَسِبَ الذين يعملون السيئات} أي: الشرك والمعاصي وإذاية المسلمين، {أن يسبقونا} أي: يفوتونا، بل يلحقهم الجزاء لا محالة. و {أم}: منقطعة، ومعنى الإضراب فيها: أن هذا الحسبان أَبْطَلُ من الحسبان الأول، لأن ذلك يظن أنه لا يُمْتَحَنُ لإيمانه، وهذا يظن أنه لا يُجَازَى بمساوئه، وشبهته أضعف، ولذلك عقّبه بقوله: {ساءَ ما يحكمون}، أي: بئس ما يحكمون به حكمهم في صفات الله أنه مسبوق، وهو القادر على كل شيء، فالمخصوص محذوف.
ثم ذكر الحامل على الصبر عند الإمتحان، وهو رجاء لقاء الحبيب، فقال: {من كان يرجو لقاء الله} أي: يأمل ثوابه، أو يخاف حسابه، أو ينتظر رؤيته، {فَإِنَّ أَجَلَ الله} المضروب للغاية {لآتٍ} لا محالة. وهو تبشير بأن اللقاء حاصل؛ لأنه لأجل آت، وكل آت قريب. وكل غاية لها انقضاء، فليبادر للعمل الصالح الذي يصدق رجاءه ويحقق أمله. {وهو السميعُ} لما يقوله عباده، {العليمُ} بما يفعلونه، فلا يفوته شيء.
{ومن جاهَدَ} نفسه، بالصبر على مشاق الطاعات، ورفض الشهوات، وإذاية المخلوقات، وَحَبَسَ النفس على مراقبة الحق في الأنفاس واللحظات، {فإِنما يُجاهدُ لنفسه}؛ لأن منفعة ذلك لها، {إن لله لغنيٌ عن العالمين} وعن طاعاتهم ومجاهدتهم. وإنما أمر ونهي؛ رحمة لهم، ومراعاة لصلاحهم.
{والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفّرنَّ عنهم سيئاتهم} أي: الشرك والمعاصي؛ بالإيمان والتوبة، {ولنجزينهم} مع غنانا عنهم، {أحسنَ الذين كانوا يعملون} أي: أحسن جزاء أعمالهم؛ بالفضل والكرم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: أم حسب الذين يُنكرون على أوليائي، المنتسبين إليّ، أن يسبقونا؟ بل لا بد أن نعاقبهم في الدنيا والآخرة، إما في الظاهر؛ بمصيبة تنزل بهم، أو في الباطن، وهو أقبح، كقساوة في قلوبهم، أو: كسل في بدنهم، أو: شك في يقينهم، أو: بُعد من ربهم، فإن من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب. ثم بشّر المتوجهين الذين يؤذَون في جانبه، بأن لقاءه حاصل لهم إن صبروا، وهو الوصول إلى حضرته، والتنعم بقربه ومشاهدته، جزاء على صبرهم ومجاهدتهم، وهو الغَنِي بالإطلاق.


قلت: {وصى} حُكمه حُكْمُ أَمَرَ، يقال وصيت زيداً بان يفعل خيراً، كما تقول: أمرته بأن يفعل خيراً، ومنه: {ووصى بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ} [البقرة: 132]، أي: أمرهم بكلمة التوحيد ووصاهم عليها.
يقول الحق جل جلاله: {ووصينا الإنسانَ بوالديه}؛ أمرناه بإيتاء والديه {حُسْناً} أي: فعلاً ذا حُسْنٍ، أو: ما هو في ذاته حُسن، لفرط حسنه، كقوله: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً} [البقرة: 83] أو: وصينا الإنسان بتعاهد والديه، وقلنا له: أحسن بهما حسناً، أو أوْلِهِمَا حُسْناً. {وإِن جاهداك} أي: حملاك بالمجاهدة والجد {لتُشرك بي ما ليس لك به علم} أي: لا علم لك بالإلهية، والمراد نَفْيُ العلم نَفْيُ المعلوم، وكأنه قيل: لتشرك بي شيئاً لا يصح أن يكون إلهاً، وقيل: ما ليس لك به حجة؛ لأنها طريق العلم، فهو قوله: {لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} [المؤمنون: 117]، بل هو باطل عقلاً ونقلاً، {فلا تُطعمها} في ذلك؛ إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
{إليّ مرجعُكُم}، من آمن منكم ومن أشرك، {فأُنبئُكم بما كنتم تعملون}؛ فأُجازيكم حق جزائكم. وفي ذكر المرجع والوعيد تحذير من متابعتهما على الشرك، وحث على الثبات والاستقامة في الدين. رُوي أن سعد بن أبي وقاص لما أسلم، نذرت أمه ألا تأكل ولا تشرب حتى يرتد، فشكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية والتي في لقمان {وَإِن جَاهَدَاكَ على أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا} [لقمان: 15].
{والذين آمنوا}؛ ثبتوا على الإيمان {وعملوا الصالحات لنُدخِلنّهم في الصالحين} أي: في جملتهم، والصلاح مِن أبلغ صفة المؤمنين، وهو متمني الأنبياء، فقال سليمان عليه السلام: {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصالحين} [النمل: 19]. وقال يوسف عليه السلام: {تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بالصالحين} [يوسف: 101] أو: في مدخل الصالحين، وهو الجنة.
الإشارة: قد وصى الله تعالى بطاعة الوالدين في كل شيء، إلا في شأن التوحيد والتخلص من الشرك الجلي والخفي، فإن ظهر شيخ التربية ومنع الوالدان ولدَهما من صحبته، ليتطهر من شركه، فلا يُطعمها، وسيأتي في لقمان دليل ذلك، إن شاء الله. وبالله التوفيق.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8